الكبيرة : رشا الشامي

المعلم : أسامة الشاذلي

عن المصالح والكرة.. عن صدام والسكس الأفغاني

صدام

في البدء كانت مواقفي مبنية على محاولات للتفاهم لا تؤدي بي لـ«علقة سخنة»، بكيت مع «بيتي وبيقول بيته اللي جاي يعتدي»، وقتها كنت أعتقد أن الكويت هي من احتل العراق، وأن العراقيين يستصرخون العالم لمنع آذى الكوايته، كان هذا هو الحل الوحيد الذي تفتق عنه ذهني، وأنا أحاول الموازنة بين إعجاب طاغي من أبي بصدام حسين، وحقائق ما يجري.

لم يكن أبي وحده يحب صدام حسين، كان العشرات في الشارع، خاصة الذين يعمل أولادهم في العراق، يعتبرون صدام «تمرت فيه الجمايل»، باعتباره تلقى قسطاً من تعليمه الجامعي في جامعة القاهرة، لسبب مجهول، صمت أولئك الذين عاد أولادهم في نعوش من العراق، تقديري الشخصي أنهم تعودوا على الموت، فنحن في الفترة من 1981 حتى 1990، كنا نعيش – كأطفال- مشاهد مطاردة دموية في الشوارع بين «السنية» وقوات الأمن بل والجيش (لاحظ أنني أتحدث عن الفيوم)، وقتها كان طبيعياً أن يكون في كل بيت معتقل، وحكم المعتقل بتهمة تخص أمن الدولة، هو اعتباره «مات خلاص»، فالسجون التي فتحت على اتساعها لم تنغلق أبداً.

قررت وقتها أن أحمي مصالحي الشخصية، بأن أبتعد عن «العلقة»، وفي الوقت نفسه، أحافظ على مركزي الاجتماعي في المدرسة الوحيدة التي كانت تعلم الإنجليزية في المحافظة، قررت أن تكون لدي «رؤية» متماسكة، هذه الرؤية في كل حال لا يجب أن تكون «ضد» رؤية الأب الغشيم، فقررت الآتي:

«العراق بتاع صدام حسين، وصدام دا راجل طيب جداً، والناس بتحبه، فالكويت عشان هما عندهم مدافع وطيارات ودبابات أكتر منه، هجموا عليه بالليل وهو كان نايم، وخدوا بيته وقالوا دا بيتي، دلوقتي بقى مصر رايحه تحارب الكوايته عشان يمشوهم من عند صدام لأن كل الناس  بتحبه، بابا وماما والناس في الشارع، فمش معقول يعني يبقى وحش».

سمع الأطفال حديثي، ورفضوا منطقي.. حاول محمد محسن تصحيح الأخطاء الفادحة، فأخرسته بعنف، قام زميل آخر ليخبرني «بس بيقولوا صدام دا ابن كلب، بابا (والده كان ضابط شرطة) بيقول صدام هايضرب السد العالي والفيوم أول بلد هاتغرق»، هنا وجدت ضالتي التي قلب الأولاد لصالحي تماما:«طيب كويس ماهو لو ضرب البتاع دا، المية هتملا الشوارع وماحدش هايروح المدرسة، وحلني بقى على ما ينزحوا المية دي كلها، نكون بقينا في الجامعة»، هنا هلل الزملاء لهذا التحليل السياسي السليم، وخرجنا جميعاً ندعو بالخير لصدام العظيم الذي سيجعل الإجازة أبد الدهر.

 

2-

كانت أول هذه أول مظاهرة أراها في حياتي، كانت مصر قد تعادلت مع هولندا بضربة جزاء، وقتها شاهدت للمرة الأولى عشرات الشباب يطوفون الشوارع الجانبية (الشوارع الرئيسية كانت حكراً على الأمن، والخروج إليها بالحشود، مسألة تحتمل التأويل)، رأيتهم من شباك منزلي ولم أفهم، فأنا شخصياً لم أكن أحب كرة القدم.. تحديداً لم أكن أفهمها، وإن شئنا تمام الصدق، كنت أكرهها لأني فاشل فيها، فأبي الذي قرر أن يشكل لي في البيت سجناً حديداً لا أغادره إلا لبيت جدي أو للمسجد، كان يعتبر أية تعاملات مع أقراني، هبوط اجتماعي يجب تجنبه فوراً وبحسم «دول كانوا عبيد عندنا»، هكذا يكرر بإيمان شديد يثير القرف.

في كافة مباريات كرة القدم التي خضتها في حياتي انتهى الأمر بفضيحة، أتذكر جيداً كيف هبطت بالباراشوت على مباراة كرة قدم في مدرسة التجريبية الإعدادية، هبطت بوصفي أمينا للفصل لا شيء آخر (وهي الوظيفة التي لازمتني دون انقطاع من الأول الابتدائي حتى الثالث الثانوي ولم أخسر أية جولات انتخابية قط).

فرضت نفسي على الفريق بطريقة بدت مقبولة، في النهاية أنا أمين الفصل، جلست لأعد خطة لعب رأيت أحد المعلقين الرياضيين يشيد بها في التلفزيون، دونت كما هائلاً من المصطلحات الرياضية (99% منها لم أكن أعرف معناها أصلا)، وجئت في اليوم الموعود مسلحاً بورقتين فلوسكاب أشرح بهم نقاط قوتنا مقابل الخصوم (شرحت نقاط القوة فقط وليس الضغف)، وبالورقتين قررت أننا ولا بد أن ننتصر في هذا اللقاء الكوني ضد هؤلاء الفسافيس، ما إن انتهيت من شرح الوضع «بالورقة والقلم»، إلا والتلاميذ قد علت وجههم بسمة أمل لن أنساها ما حييت، صورت لهم المباراة باعتبارها معركة حياة أو موت، شيء مثل غزوة بدر أو ملحمة أكتوبر، وضعتهم دائماً على طريق الأمل بمصطلحات لا أفهمها، وأقنعتهم أننا منصورون لا محالة لأن المنافس ليس لديه سوى أن يبكي حظه العاثر الذي ألقى به أمام هكذا وحوش.

وقتها نسيت شيئاً واحداً فقط، أن «قرعة» الفرق لم تكن قد بدأت، والخصوم لم يتم تحديدهم أصلاً، لكن – والشهادة لله- لم يناقشني أحد فيما قلت، واعتبروا أن اختياري لمركز خط الوسط، تواضعاً مني (فالجميع يفضل رأس الحربة)، رغم أنني اخترت هذا المكان لأنه بدا لي مائعاً، يعطيك فرصة ضئيلة لإظهار مهارة منطقية (passing )، فإن أحسن رأس الحربة استغلالها فأنت شريك في النصر، وإن لم يحسن التسديد، فهو أحمق تلوث شرفه الكروي للأبد، وسأستمتع كثيراً بالتشهير به طيلة عام دراسي كام باعتباره «الخائن» الذي أهدر فرصة الفوز على «الكفار».

في الشوط الأول بدا وكأن الكفار الملاعين جاءوا من كوكب البرازيل نفسه، عيال من نار، يفشخون الدفاع ويحولون شبكة مرمانا إلى ثقب أسود يبتلع كل شيء.. كانت النتيجة حتى منتصف الشوط الأول 5 – صفر، وقتها أدركت أن الخرق قد اتسع على الراتق، فمررت الكرة بسرعة لشاب للأسف لا أذكر اسمه حالياً، ليسددها قوية مهيبة في خصيتي حارس مرمى الخصوم.. هنا بدأت «المعركة».

تشابك الجميع بالأيدي والأرجل، وسقط حارس مرمى الفريق المنافس على الأرض يتلوى وينعي مستقبله الافتراضي، «الحنكولولو» الذي تهتك.. سعدت بهذه المشاجرة، فأمسكت أول «ظلطة» وبدأت القصف.. لم يكن الأمر بحاجة لخطة مسبقة حتى تحولت سماء «حوش المدرسة»، إلى حرب كواكب حقيقية.

سالت دماء كثيرة، وبعضنا تعرض للتأديب على يد الأستاذ رضا، أحرق الله مؤخرته السمراء السمينة، لكن المهم، أن المباراة ألغيت، فتصايحت في طرقات المدرسة، أن نجل مدير المدرسة (الأستاذ ممدوح بركات)، يقف وراء المسألة كي لا يقابل فريق الوحوش في النهائي بعد أن نفشخ 6 فرق أمامنا بمجرد النظر.

اللافت أن الجميع استسلم لهذه المقولة، واعتبروها «نهاية منطقية لدوري تحكمت فيه الواسطة»، أما نجل المدير، فكان موقفه شديد الصعوبة، مبدئياً هو لا يستطيع أن ينفي أسطورة سهرت على نشرها في كل فصل وكتبتها بالطباشير الملون على كل سبورة حتى أصبحت أمر واقع، ومن ناحية أخرى، لا يستطيع أن يتقدم للانتقام مني (كنت في سنة أولى وهو في الثالث الإعدادي)، لأن ولاده الذي يعلم حماقة نجله، حذره من أي مساس بي أو بفريقي، فالأسطورة نفسها هزت المدير وجعلته مسخة، خاصة بعد هياج أولياء أمور الطلاب المصابين في «معركة 5 صفر»، إياها لأن أولادهم جرحوا في قلب المدرسة.

بعد انتهاء الفصل الدراسي الأول، استدعاني المدير، جلس ليحكي معي بتوتر، كيف أنه يحبني، وأن أبي أوصاه بي خيراً، وكيف أنني ولد متفوق وهو شخصياً يتمنى أن يكون ولده الفاشل بمثل تفوقي (كنت الأول على المدرسة)، لكن الله رزقه بـ«حمار» لا يعرف شيئاً من فنون الحياة.. اقترح المدير علي اقتراحاً هائلاً:«بص يا أبو حميد، دلوقتي إحنا لازم نطلع فرقة تلاعب باقي المدارس، فإيه رأيك تختار لنا الفريق مع أستاذ رضا؟».

كانت الرسالة قد وصلت لعقلي الصغير هكذا:«بص يا معفن إنت، أنا مزنوق عشان أجيب فريق، وبطل الهبل اللي بتعمله دا، وخلصنا من أم الكورة عشان ننجز، وخلي بالك إبني لازم يلعب»، تقبلت الموقف بهدوء ورددت عليه بعرض آخر «طيب إيه رأيك يا أستاذ نعمل انتخابات إتحاد المدرسة»؟ فهم الرجل المخضرم مع من يتكلم، وقبل المقايضة.

بالمقابل كان المدرسون يتهامسون حول إصرار المدير على الأنشطة، باعتبارها فرصه للترقي لمدير أو حتى وكيل مدرسة ثانوي، وصلتني همسات «الأساتذة» فأبلغتهم الحل، واخترت مع أستاذ رضا،  كنت أعلم يقينا أن لدينا في المدرسة أسوء مجموعة من «الفرافير» الذين لا يحيدون سوى «الدح»، فقررت في نفسي أن أختارهم مع ابن المدير كفريق يمثل المدرسة.

حسب الصفقة، وفي خلال أيام، قرر المدير تمرير اختياري أمينا للجنة الثقافية في المدرسة (لعلمه بدوام التزويغ من الفصل إلى المكتبة) ونائباً لأمين اتحاد الطلاب.

جاء القرار هادئا بالاتفاق مع المدرسين الأوائل، ثم طلاب سنة تالتة «لازم يكون معاكم ناس من بتوع أولى، إنتو هاتمشوا السنة اللي جاية، ودول هايفضلوا بعدكم سنتين»، ففزت بالتزكية، ذهب ابن المدير ليخسر من الجولة الأولى أمام مدرسة مجاورة في مباراة انتهت 3 صفر.

 

3

 

كان الشيخ يصرخ من على المنبر ناعياً علينا «الفجور» الذي نعيشه، (نحن الذين بالكاد نلمح الحياة من بعيد لبعيد)، كان يصعد بساق عرجاء إلى المنبر، وبينما يصمت الجميع، يعدد هو خطايانا، يضعنا كلنا، شباب وكهول وعجائز ورجال ونساء في زاوية واحدة عنوانها الجحيم، ثم  يصرخ فينا: «والله لولا عباد ركع وبهائهم رتع وأطفال رضع لصب عليكم العذاب صباً».

ذات يوم كررت العبارة في خطبة مدرسية أمام أستاذ اللغة العربية أ.سامح (عرفت وأنا في الجامعة أنه سافر لباكستان ثم أفغانسان والله أعلم بمصيره الآن)، ساعتها وقف ولد عفريت يدعى شوقي (وهو أشطرنا في الكرة وأحلانا وجهاً وأكملنا في عدد الغراميات)، قال شوقي:«طب بالنسبة للنسوان، مالهاش خاطر هي راخرة ولا إيه يا أستاذ»؟.

وقف الأستاذ سامح ليحكي لنا كيف أن النساء «فتنة» وأن النظرة إلى المرأة «سهم مسموم من سهام إبليس».. أتذكر وقتها أني كنت معه بكل جوارحي، فالمرأة التي يقصدها هي تلك الكائنات المشكلة من أعواد الملبن التي تتلوى في الشوارع، وتعذبنا في المنامات، وتجعل الدم يفور من خدودنا ونحن نشاهد ارتطام الشفاة بالشفاة مع الغندور محمود ياسين.

كان يجلس خلفي شاب رقيق القلب، مرهف الحس، سريع العبرات، قوي الإيمان يعدى معتز (اسمه أصلاً المعتز بالله)، هذا الولد اللطيف ضخم الجثة، كان يتابع أداء الأستاذ سامح المبهر بكل شغف، كان يعرف أنه أمام إله الحكمة عند الفيومية، فهو (الأستاذ أعني)، شاب بالكاد يلامس الثلاثين من عمره، أبيض الوجه مشرب بحمره، شعره أسود فاحم، وعيناه سوداوان، وكلامه عن الجنة يجعلك تطير إليها، وحديثه عن النار يجعلك تشعر بجمرات سقر تلفح مؤخرتك.

أتذكر الآن هذا المراهق الخلوق وهو ينهنهة مع حديث الأستاذ المسرحي عن صنوف العذاب التي لابد أن تصيب من ينظر للنساء ومن يشتهي ارتطام اللحم باللحم، ومن يتجرأ ويفتح ذراعيه لضمة، أو يعطي نفسه الفرصة ليتعرف على «أعواد الملبن»، كان معتز ينهنهه والأستاذ لا يرحمه، وبينما بدأت عيوني أنا الآخر تمتلئ بالدموع، لكزني معتز وهو يبكي فالتفت إليه مواسيا، ليمرر لي صورة سكس لسيدة لاتينية تفري أكباد الخلائق.. نظرت للصورة بتركيز شديد وأنا أتذكر مصيري الأسود حتما، ثم مررتها لزميلنا شوقي، الذي ما إن رآها تحت التختة حتى تعالى صوته بالنحيب المدوي.




 تعليقاتكم

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*

احدث الافلام حصريا ومجانا