الكبيرة : رشا الشامي

المعلم : أسامة الشاذلي

البحث عن ياسين التهامي.. حينما رافقني الخال في رحلة لرؤية الله (1)

ياسين التهامي

قبل الاحتفال بمولد سيدنا الحسين بأيام طلبت مني الجريدة التي أعمل لديها التواصل مع الشيخ ياسين التهامي لإجراء حوارٍ صحفي معه، وبعد عناء تواصلت تليفونيًا مع ابنه الشيخ محمود ياسين التهامي الذي كان جالسًا تقريبًا بجوار والده الشيخ ياسين وقال لي : “يا حبيبنا دانت تنورنا في أي وقت”، وأخبرني أنه الآن في أسيوط وأن الأيام المقبلة أيام احتفالات بسيدنا الحسين ووقته كثيرًا مشغول بإحياء الحفلات.

حدد لي موعدًا للقاء، بشرط أن تكون مدته رُبع ساعة فقط، وسيكون في خيمة سيتواجد بها في ساحة الحسين قبل إحياء الحفلة الكبيرة بالقاهرة.

الحقيقة أنني انتفضت فرحًا ليس لموافقة الشيخ علي إجراء الحوار، فالذي لم تكن تعرفه الجريدة قبل إسناد هذة المهمة لي، هو أن مقابلة الشيخ ياسين بمثابة حُلم وُلد منذ الطفولة وكبر معي، فقد نادني صوته كثيرًا وصدقته، والسبب هو أن كان لي خال من دراويش الشيخ، يطوف ورائه أيًا كان مكان تواجده، يذهب إلى حفلاته بين الصعيد وبحري غير عابء بوصف الناس له بـ “الدرويش”، وجوهر هذا الشغف الكامن بداخلي كان لأني آمنت بأنني قابلت الشيخ أكثر من مرة، لكن ليس وجهًا لوجه، يمكنك أن تسأل أين وكيف قابلت الشيخ ولم تتقابلا؟

“أكاد من فرط الجمال أذوب” 

في يوم صعب قبل امتحان مادة الرياضيات في الإعدادية -كنت فاشلًا فيها- كنت مرعوبًا لدرجة كبيرة، حيث كنت أنظر في الملازم ولا أفهم منها شيئًا، قال لي خالي: “مالك يابني شايل الدنيا فوق دماغك ليه؟”، أخبرته بالوضع الحرج فرد بضحكة عالية مشددًا أن هذا سببًا لا يستدعي كل هذا الهم: “طب تعالى تعالى”، ضاربًا بكلام الوالد الذي أخبره بأنه لديه امتحانات عرض الحائط.

بعد ما نزلنا قولت له: علي فين يا خال؟، قال لي: “هنشوف ربنا”! صدمتني الكلمة قبل أن يقودني إلي مسجد الحسين بعد المغربية بقليل، فكان يسلم علي أصدقائه المتجمعين حول دائرة ويرفعون أصواتهم بكلامٍ متداخل لا أفهم معناه، كان كلام متماسكًا ولا يشبه التعاويذ، دخلنا فسلم الخال علي أصدقائه.

ذهلني أنه كان كلما سلم علي أحدٍ منهما، حاول الآخر تقبيل يديه وتبادلا الأدوار، فأجابني لقطع هذا الذهول الذي سكن عينيي “إحنا حبايب وده سلام الحبايب عادي”، كنت أول مرة أعرف أن هذه الدائرة تتجمع استعدادًا لشئ يُدعي “الحَضرة”.

توالت أسئلتي عليه والتي كان أبرزها، بما ترمز لون الطاقية التي يرتديها كل مجموعة مُلتفين في حلقة واحدة؟ .. فأخبرني أن المجموعة التي ترتدي طاقية بيضاء يرددون أسماء الله الحسني، والطواقي الخضراء تشير إلي مرددين تواشيح الحسين، والمجموعة التي ترتدي طواقي برتقالي فاقع فإنهم ينشدون أناشيد آل البيت جمعًا، ودخلنا في طابور كبير يسلم فيه المريدين تباعًا علي الشيخ الكبير.. وهو شيخ كبير السن يرتدي عمامة مميزة من بينهم، فجاء دورنا أنا وخالي فقبل خالي يده وداعب الشيخ خدودي قبل أن يضع فوق رأسي طاقية من اللون البرتقالي فانتابني شعور بالتميز والشغف لما يحدث بعد ذلك مستبدلًا هذا بشعور الترقب والاكتشاف.

فجأة تحرك الجميع في نظام ثابت ليصنعوا دوائرا متداخلة، وكان الخال يسحبني من يدي ويحركني كالمجموعة فوقفت متسمرًا، قبل أن يأتي ولدًا بسماعة كبيرة مغطاة بعلم أخضر مكتوبًا عليه “الحركة الصوفية”.

ما الذي يستعد له هؤلاء؟

أغمض الجميع عينيه بينما ارتفع صوتُ مبحوحُ ينطلق من سماعة كبيرة تسكن إحدى الأركان: “يااااااااااااااااااااااااااااااااا رب”، الصوت نزل كالمرهم علي جرحٍ غائر، بدأ الجميع في فرد ذراعه وكأنهم سيحلقون، وبرد فعل تلقائي فردت أيضا ذراعي معهم”، واصل الصوت: ” والله ما طلعت شمس ولا غربت، إلا وحبك مقرونُ بأنفاسي.. ولا تنفست مسرورًأ ومكتئبًا، إلا وأنت صهيلي بين أنفاسي.. ولا شربت شراب الماء من عطشِ، إلا رأيتُ خيال منك في الكاس”.

كان هذا موال قبل انطلاق اللحن الذي كان اعتمد في إيقاعه على صفقات الموجودين المنتظمة وهمهمات مع كل صقفة وتقدم واحدًا وحمس الجميع قائلًا : “مداااااااااااد يا سيدي يا حنين ع الغلابة”، فأكمل الصوت: ” أكاد من فرط الجمال أذوبُ، هل يا حبيبي في رضاك نصيب؟”.

لم أجد إجابة لأسئلة كثيرة حتى الآن من بينها سؤال خالي الأول، لكني شعرت به فوجدت يدي تصفق تلقائيًا معهم وبدأوا في تمايل غريب لم تأخذ دهشتي منه دقائق حتي دخلت في ذلك البحر من التمايل مغمضًا العينين حتي أمسى الصوت يتلاشي والإحساس بالأشياء يُمحي وبدأ الشعور بأنني أطير، أو كما قال لي خالي “تشعر بأن قدمًا ع الأرض وقدمًا في السماء”، استمرت هذه الحضرة 10 دقائق أو ساعتين تقريبًا فالزمن في هذه اللحظات غير محسوب.

بعد الخروج من حالة الطيران وجدت الملابس كلها مبللة من عرق المجهود غير المحسوس، كان الناس يسلمون علي بعضهم كالعائدين من رحلة طويلة جدًا وكأنهم يهنئون بعضهم في أيام العيد، والصوت الخارج من السماعة بدأ في أغنية أخري قبل أن يغلقه الولد الصغير الجالس علي السماعة الكبيرة ممدًا قدميه، وسألت الخال: ” ألا قولي صحيح مين اللي كان بيغني” فرد مبتسمًا : “أولًا ده مش بيغني ده بينشد.. وده يا سيدي يبقي كبير المداحين.. الشيخ ياسين التهامي!

 

عصارة القصب (آآآآآه لو تعلمين بحالي)

اعتدت “قربعة شوبًا” كبيرًا من القصب بعد أي مجهود كبير تبذله عضلات الباي والتراي في الجيم، كنت أعرف أن هذا المجهود ستذيبه برودة القصب، والحقيقة أنها ليست فقط برودة القصب، بل كان لشوب القصب من هذا المحل خصوصية كبيرة.

“نجمة أسيوط” كان هذا اسم المحل، وصاحبه عم مسعد، ذاع صيته في المنطقة إنه من دراويش السيدة زينب، جاء مع والديه صغيرًا من الصعيد لمسجد السيدة ليدعون بالمقام فمسه حب ستنا فهرب من والديه ليقضي بقية عمره بجوارها، وفتح محلًا لعصير القصب مبررًا ذلك بأن “القصب بيبرد الوالع” مثل ذكر آل البيت، كان هذا الرجل يصرف لك “شوبًا” مجانيًا إذا استحلفته بالست الغالية.

كنت أتلكأ في حين أشرب القصب لأسمع الشيخ ياسين التهامي ينشد بصوت مجروح “آآه يا روحي لو تعلمين بحالي.. معاذ الهوى” ويردد المريدون “يا ستناااااا يا غالية”، فيغمض مسعد عينيه ويثبت مكانه ومهما كان عدد الزباين الواقفين لطلب العصير فإنه يحتفظ لنفسه بلحظته الخاصة جدًا، كان الجميع يعرف تمامًا التوقيت الذي يفتح فيه مسعد التسجيل علي الأغنية فيتحين القدوم له في هذا الوقت؛ لأنه في تلك اللحظات يخرج تمامًا عن الوعي الإدراكي الطبيعي، وتنزل عليه سكينة زائدة تجعله يترك من لا يدفع الحساب أو يدفع الحساب منقوصًا، فكان للشيخ ياسين التهامي فضلًا معترف به علي أهل المنطقة في شرب القصب تقريبًا ببلاش، ولكن كان عليا وقع مختلف كمادة كاوية للجروح؛ لأني أريد مقابلة ذلك الساحر الذي يسيطر بصوته فقط علي وعي الكثيرين.

تابع الجزء الثاني.. 




 تعليقاتكم

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*

احدث الافلام حصريا ومجانا