الكبيرة : رشا الشامي

المعلم : أسامة الشاذلي

حكايات “المتاجرين بالمرض” .. فئران التجارب المصرية

حكايات "المتاجرين بالمرض" .. فئران التجارب المصرية

هكذا أصبحنا فئران تجارب لطلاب كليات الطب المصريين والعرب والأجانب 

رحلة استغلال المرضى لاجراء الكشوفات والتجارب عليهم فى الكورسات الخاصة 

استقر شعبان محمد، الخمسيني، على جلب الأموال من طلاب كلية طب الأسنان جامعة طنطا عن طريق الأذى الذي لحق بأسنانه، لم يتخيل له أن سقوط أسنانه جميعها ستكون فاتحة الخير له ولأسرته المكونة من الزوجة وثلاثة أبناء أكبرهم محمد طبيب النساء، بعد أن علم من شخص آخر، أنّ الجلسة الواحدة مع طالب يقوم بتركيب له طقم الأسنان تكلّف صاحب البالطو الأبيض ٦٠ جنيهًا، ليترحّم على فترة “الخدمة في أراضي الناس” بعدما كان يستأجر الأرض منهم ويقوم بزراعتها بمقابل مالي “لا يثمن ولا يغني من جوع” -حسب تعبيره-. 

أيام عرض محمد نفسه على الطلاب، ليستغل أزمة أسنانه في التربّح بعد أن صار من الممكن أن يقوم بأربع جلسات في اليوم، غير أن أوقات الامتحانات والعملي يتغير السعر لـ١٠٠ جنيه في بعض الأحيان، ليكون مكسبه اليومي “مش بطّال” حسب تأكيده.

شهرة محمد علِم بها عدد من الطلاب العرب الذين يدرسون الطب في مصر، ليقوم بعمل تسعيرة لهم في الأوقات العادية تصل إلى ١٠٠ جنيه وفي أوقات الامتحانات يصل سعر تركيب طقم الأسنان إلى ٢٠٠ جنيهًا، ليؤكد أن سعره أقل للطالب المصري لأنه “حنين عليهم، وغلابة ولا يقدر أهلهم على تلبية احتياجات الكلية”.

                        

يترك الخمسيني بيته صباح كل يوم في اتجاه كلية طب الأسنان، نحو الطالب الذي تم الاتفاق معه سلفًا على تقديم نفسه لعمل معه جلسة التركيب التي تميّز بها بين الآخرين، “لو مفيش حد كلمني قبلها، بروح الكلية ورزقي ورزق ولادي على الله.. بلاقي كتير بيتفقوا معايا، ولو محصلش، بروّح بيتي وبدعي ربنا رزقي يجيلي تاني يوم”. 

شعبان مثله كثيرين في امبراطورية المتاجرة بالمرض لكسب الأموال، رجال وسيدات وأطفال ساعدهم مرضهم على غير العادي على التربح من طلاب كليات الطب في مصر، إمبراطورية تقوم على استغلال أصحاب البالطو الأبيض ليقوم الأخير في المستقبل بلا شفقة استغلال مرضاهم.

 

عصام عبد العظيم: ترك أسرته للاتجار بمرضه النادر

 

في ظل غياب التعليم وعدم القدرة على العمل يقطن عصام عبد العظيم، 28 عامًا بالقصر العيني منذ أكثر من عشر سنوات، إلا أنه علم في السنوات الأخيرة بـ “التجارة المربحة بمرضه أنميا البحر المتوسط”، ليعيش على أموال الدروس التي يدفعها الطلاب له لسد حاجته، فسابقًا والده هو من كان يتكفل بمصاريف علاجه، بسبب عدم قدرته على العمل أو بذل أي مجهود منذ طفولته. 

فمنذ أن كان عمر عبد العظيم عامًا وأصيب بأنيميا البحر المتوسط، مما كان يستدعي نقل الدم إليه، غير أنّ حالته المرضية ظلّت في تأخر مستمر إلى أن أتم السابعة من عمره، ليتطلب الأمر نقل الدم إليه ثلاث مرت شهريًا، إلى جانب تضخّم الكبد، ليضطر بعد ذلك إلى عملية ناجحة لإزالة الطحال، ليشعر بعدها بالتحسن مما جعله يوقف نقل الدم لـ عشر سنوات، لتدهور حالته ويصبح من مقيمي مستشفى القصر العيني. 

تعيش أسرة عبد العظيم في محافظة بني سويف، فوالده عجوز ووالدته لم تختلف حالتها عن حال والده، بالاضافة إلى انشغال أخوته بحياتهم بالعمل في الزراعة، جميعهم هناك، ولا يوجد أي منهم في القاهرة بجانبه، مما يضطر إلى إيقاف تجارته كل شهر تقريبا لمدة أسبوع يسافر فيه إلى أهله لرؤيتهم والاطمئنان عليهم قبل أن يعود مره أخرى إلى المستشفى.

لم يعلم عصام بالتجارة بمرضه إلّا منذ ثلاث سنوات، على الرغم من استمرار تواجده في مستشفى القصر العيني منذ ١٠ سنوات بشكل مستمر، ليكون حديث أحد العاملين بتلك التجارة بوابة الخير له بعد أن رأى عدم تقاضيه أموالًا من مقابل الدروس التي يجريها عليه طلاب كلية الطب، ليطالب بـ١٥٠ جنيهًا تقوم سكرتيرة القسم بتجميعهم وأخذهم بعد نهاية الدرس. 

التقى المريض بأنيميا البحر المتوسط، بـ سليمان السمسار الذي قدّم له عدة عروض من بينها حضور الدروس الخارجية، بجانب دروسه في القصر العيني التي لا تتوقف، فيحكي عن الدرس الأول قائلًا، “بعد أن تم الاتفاق مع السمسار، كان الدرس في شقه مفروشة مستأجره من قبل دكتور و٥ طلاب، استمرت الدرس تقريبًا ساعة تقاضيت ٦٠ جنيهًا، زادت إلى ٧٥ جنيهًا في الدرس الواحد”. 

لم يجد عصام المفر من الاستمرار بالمتاجرة بمرضه لعدم قدرته على بذل مجهود بالعمل الخارجي بسبب مرضه، بالأضافة إلى أنه لم ينل حظه من التعليم بسبب إجراءه أول عملية في سن المدرسة فلا يوجد أمامه سوى تلك التجارة حتى يستطيع العيش من وراء أموالها.

 

السيد لا يتعامل إلّا مع مصريين أو عرب حتى لا يسوء سمعة المصريين في الخارج

 

بنفس المرض النادر “أنيميا البحر المتوسط” أصيب الحاصل على شهادة الدبلوم الصناعي قسم تبريد وتكييف طه السيد وهو في الرابعة من عمره، ليرافقه بقيّة حياته، ويجعله من سكان مستشفى القصر العيني ولكن غير الدائمين، فكان دائمًا يذهب للعلاج ثم يعود إلى منزله. 

علم السيد، بتجارة الدروس منذ سنوات عديدة، فعلاقته بالمستشفى كثرت عن 20 عامًا ماجعله على علم بكل ما يصير بها ولكنه لم يشترك بالدروس داخل القصر العيني لعدم إرادته في خفض مستواه الاجتماعي أو تعامل دكاترة القسم معه كما يتعاملون مع المرضي الأقل منه، منوهًا أنه بسبب عمله في مجال التبريد والتكييف يمكن أنّ تصل أجرته إلى 500 جنيهًا، الأمر الذي جعله يستنفر من معاملة أطباء القصر العيني مع المرضى داخل الدروس بالمستشفى، والتي يعتبرها لا تليق بمستواه الاجتماعي الذي يختلف عما حوله، غير أنه يستثنى الدروس الخارجية لاختلافها من حيث مستوى الطلاب وطريقة الطلاب والأطباء بها. 

يوضح سيد أنّ الدروس الخارجية التي بذهب إليها تتراوح أسعارها من 200 جنيهًا إلى 300 جنيهًا ويمكن أن تزيد، فكل مكان له سعره الخاص، فكانت أولى الدروس التي يذهب إليها بالقصر العيني الفرنساوي مقابل 300 جنيهًا، بينما يكون أسعارها في القصر العيني بين ٧٥ جنيهًا إلى ١٠٠ جنيهًا. 

“تبادل مصالح ” هكذا يبرّر السيد سبب قبوله دخول تلك الدروس ، فـ دخوله المستشفى التعليمي يجب عليه تلبية طلبات الدكاترة بالقسم، حتى يستطيع أن يلزمهم بما يريده مثل التحاليل التي تستدعى الموافقة من الدكاترة بالإضافة إلى وجود تحاليل لا توفرها المستشفى للمرضى فيمكن أن يوفرها الدكتور مجانًا إذا كانت هناك علاقة طيبه بينهم، منوهًا أنّه يمتلك المال لتحمّل تكاليف علاجه بالخارج، ولكنه يريد أن يؤمن مستقبل أولاده على المستوى التعليمي أو الاجتماعي. 

وقبل أنّ نتركه ونرحل، عقدنا اتفاقًا معه على درس خارجي لطلاب عرب بإحدى الجامعات الخاصة لمدة ساعة فقط، واتفق حينها على أن يأخذ ٣٠٠ جنيهًا في الساعة، مؤكدًا أن الوضع يختلف كثيرًا بين الطالب العربي والمصري من ناحية المستوى الاجتماعي، ولكن لو العرض لطلاب من الخارج ليسوا عربًا فسيكون الرفض القاطع حينها، لأنه “لا يحب أن يسوء سمعة المصريين أمام الطلاب في الخارج”.

 

محمد فتحي أسطورة آخرى من أساطير تجارة الدروس الطبية

 

يجلس محمد فتحي صاحب لـ٣١ عامً على كرسيه المتحرك في انتظار أي طالب يطلب منه درسًا خاصًا أو عمليًا، قبل أن يترك مكانه في حال عدم وجود أي طالب له ويعود إلى بيته في الزاوية الحمرا، قبل أن يعود إلى الدمرداش مرة آخرى لتجارة الدروس. 

يعمل محمد بتجارة الدروس منذ العديد من السنوات، بعد أن تعرّف عليها عندما تم حجزه بمستشفى “الدمرداش” من خلال أحد المرضى الذي عرّفه على دكتور يدعى رمضان، وكان السبب في دخوله هذا العالم ولكنه يصف الفترة الأولى بأنها “لم تكن آدمية”، فكان يتعامل معه على أنه شخص يأخذ الأموال فقط غافل عن كونه إنسان، ليتعرف بعدها على “سليمان” متعهد القصر العيني -على حد تعبيره-. 

“بيزنس قذر”، هكذا وصف فتحي تجارة الدروس، حيث أنّ الكثير من الأطباء، يتعاملون معهم على أنهم فئران تجارب فيتركونهم حائرين بين الأسئلة التي تُفرض عليهم و لا تمت للطب بصلة وبين المقابل المادي الذي يتقاضوه. 

تخرج فتحي من كلية العلوم عام ٢٠٠٣ وعمل بشركة “سيد” للأدوية كـ “كميائي” غير أن كل هذا راح هباءًا بعد بضعة سنوات من تعيينه، ليبدأ رحلة مرضه بعد أن اكتشف إصابته بمرض “التصلب المتعدد” بعد أن شعر في البداية بثقل في رجله مما حتم عليه استخدام عكاز، ثم تطور المرض بعدها ليستغنى عن العكاز في مقابل المشاية، ومن ثم أخذت حالته بالتدهور حتى أصبح قعيد على كرسي متحرك، الأمر الذي جعله يترك عمله لعدم قدرته على المواصلة. 

يروي فتحي، أنّ بعض الأطباء لا يعلمون أنه خريج كلية العلوم فيتعاملون معه على أنه شخص جاهل لا يعرف تشخيص حالته، وفي أحد المرات سألته دكتورة عن قدرته الجنسية في حياته الشخصية بل وصل الأمر إلى تحرشها به، وبعدها بفترة علم من المرضي أنها تتعامل مع الباقية بمثل ذلك التعامل، بع أن اشتكى عدد من المرضى من تحرشها الجسدي بهم. 

يتابع محمد حديثه في حزن عن سبب قبوله بتلك التجارة، أنّ الظروف هي ما حتمت عليه أن يدخلها، مشيرًا إلى أنه عندما ترك عمله بشركة الأدوية حاول أن يقدم على شغل حكومي تابع لـ قرار تشغيل 5% من العمال ذوي الإعاقة ولكنه فشل في الالتحاق بأي منهم بسبب “عدم وجود واسطة معه”، ما جعله يتاجر بمرضه حتي يستطيع تحمل تكاليف بيته وأطفاله التوأم. 

يخجل محمد الحديث عن كونه أحد العاملين بتلك التجارة، فحينما يسأله أي شخص عن مصدر رزقه يخجل في الإجابة بكونه أحد “فئران التجارب” بل يؤكد أنه يبيع المناديل بمنطقة سكنه، حتى لا يقل في أعين الآخرين، “لما ببيع المناديل مش باخد فلوس من حد أكتر من سعر المناديل، ولكن الناس بيعتبروا الموضوع تسول وشحاته وأنا مش بقبل أتسول على حد”.

 

محمد جلال: لا أعتبر الدروس مهنة.. وما يجعلني أحضرها هي الأزمات المالية

 

يختلف الأمر مع محمد جلال صاحب الـ٤٦ عامًا عن سابقه، فلا يعتبر الدروس تجارة أو مهنة، إنما هي شيء جانبي يمكّنه من الحصول على المال عندما يقع في أزمة مالية لا تستطيع مهنته أن تحلها فهنا فقط يتجه إلى الدروس الخارجية، أمًا عن الدروس بالقصر العيني فيقول إنه فقط يدخلها كنوع للمساهمة في مساعدة الدكتور، على الرغم من أنه يتقاضى مقابلها المادي. 

يعتبر جلال من أقدم المترددين على القصر العيني، فكانت أولى زيارته بأوائل الثمانينات، وهو ما ما جعله يعلم بأمر تلك التجارة منذ نشأتها على حد تعبيره، ولكن لم يكن يريد أن يتعمق بها، بسبب حالته الصحية التي لا تسمح بذلك. 

بجانب معاش والده، يعمل محمد كهربائي في منطقة “الصف”، وهو المكان الذي يعيش به مع أسرته المكونة من ثلاث بنات وولد جميعهم في مراحل تعليمية مختلفة مما يتطلب مبالغ مرتفعة غير الحياة اليومية، مما يضطره أحيانًا الذهاب إلى تلك الدروس. 

“كثيرًا لا يراعي طلاب الطب المرضى” هكذا يصفهم، بعد أن يقومون بالكشف عليه أحيانًا كثيرة بطرق غير صحيحة، مما يؤدى إلى آلام لا تطاق في جسده، مما لا يستطيع استكمال عمله في الورشة، مضيفًا أنه عندما يهمل علاجه تدهور حالته بسرعه كبيرة ما يجعل المدة التي يجلس بها داخل القصر العيني تطول.




 تعليقاتكم

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*

احدث الافلام حصريا ومجانا