الكبيرة : رشا الشامي

المعلم : أسامة الشاذلي

طارق الفجر

طارق الفجر ..... طارق الفجر .... طارق الفجر ....طارق الفجر ... طارق الفجر ...طارق الفجر

كادت نبضات قلبي أن تتوقف عندما استيقظت فجأة على تلك الدقات العصبية و العنيفة على باب منزلي. أشارت عقارب الساعة للرابعة فجرا. جلست على السرير, فربما كان كابوسا أيقظني من نوم عميق بعد يوم حافل بالأحداث و المناسبات و المناوشات. و لكن بعد لحظة صمت, لم تتعد الثواني, عادت تلك الدقات المرعبة أكثر قوة و اصرار. كنت في غاية من السعادة عندما زال ذلك الصداع القاتل و سمح لي بالنوم أخيرا, و لكنه بدأ يتسلل مجددا مع تلك الدقات المريبة, شديدة القوة و الازعاج. اردت بشدة أن استجمع قواي لأنهض من مكاني و أذهب لأرى من الطارق, و لكن و بالرغم من محاولاتي الا أنني لم أستطع النهوض, مما زاد و أضاف لتوتري و خوفي. كنت وحدي بالمنزل, وحدي تماما, تلك الوحدة التي كانت تقتلني ببطأ و لم أرغب في أن أقر و أعترف بها, حتى هذه اللحظة. لو كان معي شخص, أي شخص, كان ساعدني في النهوض, كنت اتكأت على ذراعه لأرى من الطارق. و لكن كيف لي أن أطلب من أولادي و من أحفادي أن يتركوا مشاغلهم و مدارسهم و حياتهم ليظلوا بجواري, خصوصا بعد ما صرت أنسى بشكل مخيف, ذلك النسيان الذي بات مصدرا لقلق البعض و لتذمر البعض الآخر.

كنت مؤمنة تماما أنني لن أجد نفسي في مواقف يصعب علي تحملها وحدي. استطعت بفضل الله و ارادتي أن أربي أبنائي وحدي. لم تكن رحلة سهلة و لكنني استطعت أن أحارب وحدي, في حرب كتبت أن يحارب فيها اثنين, يكونوا سندا لبعض, عزوة لبعض, مصدر أمان و أمن. عندما وجدت نفسي وحيدة, كان علي أن استجمع قواي و أن أخلق هذا الآخر بداخلي بشكل معا لأستطيع أن أكمل الحياة. في لحظات كثيرة و عندما كنت أنهار تماما, و تسيطر على الكآبة, كنت أتذكر أولادي, و مدى احتياجهم لي. عندما كانت تظلم الدنيا تماما, كنت أقنع نفسي أنني قوية و قادرة على كل شئ و على أي شئ.

في حقيقة الأمر, أنا كنت فعلا قوية, كنت فعلا قادرة, بل أحيانا كنت أشعر أنني جبارة, أستمد ذلك الجبروت من دعائي و من شكواي الى الله. كنت أشعر بتلك الروح تسمو و تعلو فوق الآلام و الدموع و المصاعب و المشاكل. كان يمر اليوم و كأنه ألف يوم, و تصبح دقات الساعة و كأنها دقات على رأسي و في قلبي. و يمتزج طعم الألم بكل ما أتذوق و كل ما أرى و كل ما أشعربه, حتى تعودت عليه و باتت مرارته حلوة و جذابة. لم أكن وحدي, تلك هي الحقيقة, كانت دائما تحيطني الملائكة و تربت على كتفي و تدفعني للأمام عندما تتعثر خطواتي. و بالرغم من صعوبة الحياة و قسوتها, الا أنني كنت أيضا أرى لذتها في بعض اللحظات المسروقة.

كانت الرحلة صعبة, و مع كل يوم كنت أدرك أنه لا فائدة من التذمر أو البكاء أو الندم, لا فائدة من تذكر لحظات اليأس و الألم, لا فائدة من الشكوى و ندب الحظ السئ و الأختيارات الخاطئة, كنت أذكر نفسي دائما أن الحياة لا و لن تتوقف, و أنها تمضي بسرعة , و أنني ان اهدرتها على البكاء و الندم سأكون من الأغبياء اللذين لا عزاء لهم. لن أبكي على أشخاص وثقت بهم و خذلوني, و لن أبكي على أشخاص ائتمنتهم على اسراري ففتشوها, و لن أبكي على من خانني أو أذاني أو ضايقني, فهم أقل بكثير من أن أذكرهم أو أن أفكر بهم. و بالرغم من اني أذكرهم فعلا و أفكر بهم أحيانا, الا أنني اقوم بذلك فقط لاذكر نفسي بالدرس, أراجع و أراجع حتى لا أنسى و حتى لا أتأثر و حتى لا أحزن على أحد حتى لو للحظة.

استغربت أن هذا الضجيج الذي كان يحدثه من قرر أن يطرق على باب منزلي في هذه الساعة المتأخرة, لم يوقظ أي من الجيران, فالحي الذي أعيش فيه هو حي هادئ جدا و آمن للغاية. استغربت أفراد الأمن المنتشرين في الحي و على بوابة منزلي. استغربت ذلك الشخص المخبول الذي قرر أن ينتهك خصوصيتي في هذه الساعة. نهضت ببطأ, متكأة على الحائط لأنزل الدرج, للطابق الأرضي لأفتح الباب, لقد كان أمرا لابد منه. سندت على طاولة صغيرة في الممر عليها بعض الصور, كادت احداها تقع بدون قصد. كانت صورة زفاف ابني, و بجانبها صورة لحفيدتي و التي سافرت للدراسة, و صورة أخرى لي أنا شخصيا و أنا في عمر الشباب. قربت الصورة من عيني لأرى بوضوح تلك الحيوية و الشباب و النشاط, تلك الطاقة التي تكاد أن تقفز من الصورة. استغربت نفسي كيف لي أن أتذكر جيدا من التقط لي الصورة و متى و أين و أنا أنسى كثير من الأمور الأخرى, حتى أنني أحيانا أفكر للحظات في اسمي, نعم أحيانا أنسى اسمي. و لكنني تذكرت ذلك الشباب الجميل الذي التقط لي الصورة, و حتى أنني أتذكر جيدا صوته و كلمات الاعجاب التي قالها لي.

متى مرت السنين و مر العمر, متى أصبحت بهذا العمر, و متى ملأت تلك الخطوط وجهي الصغير, أنا لا أتذكرتماما أي من تلك التفاصيل, و لكنني أعلم أنني نمت في يوم و استيقذت امرأة عجوز تجاوزت الثمانين من عمرها. هم يقولون لي أنني تجاوزت الثمانين, و لكنني مازلت في العشرين من عمري, أنا واثقة!

استطيع أن أرى أضواء شديدة قادمة من الدور الأرضي, لا يمكن أن يكون لص يريد سرقة منزلي و يصدر كل تلك الضوضاء و يضئ الكشافات بهذا الشكل. كنت بالكاد ارى خيالات تتلاعب أمامي و أشباح تتحرك من وراء باب المنزل الزجاجي. هم أشخاص كثيرون و ليس شخص واحد, و هذا الصوت ليس بغريب, لقد سمعته من قبل. انه صوت…الاسعاف؟

فتحت عيني باحدى الغرف في احدى المستشفيات. لم أكن أعلم ماذا حدث, أو أين أنا أو مع من. دخل الطبيب و نظر لي نظرة تركيز و فحص, ثم ابتسم ابتسامة بسيطة.

“الحمد لله انتي بخير يا مدام ليلى.”

“نشكر الله أنا دائما بخير. و لكن ماذا حدث؟”

“لقد اتصلتي بالاسعاف عندما شعرتي بالتعب. هل نسيتي؟”

“أنا لم اتصل بأحد!”

“حسنا ارتاحي الآن و سأطمأن عليكي بعد قليل. تحتاجين لبعض الراحة.”

رحل الطبيب و أنا في حالة من الاستغراب, فأنا متأكدة و واثقة أنني لم أتصل بأحد, و لكنني كنت أرغب في النوم الشديد فلم أبالي. فرصة ممتازة لأن أغمض عيني و أنام خصوصا أنني و الحمد لله لا أعاني من وجع الرأس المؤلم و الذي يكدر صفو حياتي في معظم الأوقات.

 

 




 تعليقاتكم

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*

احدث الافلام حصريا ومجانا