الكبيرة : رشا الشامي

المعلم : أسامة الشاذلي

وردة أم كلثوم الحمراء

وردة

وردة حمراء كبيرة:

في منتصف الأربعينيات شعرت أم كلثوم بألم قاسٍ أسفل جانبها الأيمن، بعد التشخيص المبدئي تم اكتشاف التهاب الزائدة الدودية وأصبح استئصالها ضروريًا. في تلك الفترة -برغم أعلى الإمكانيات الطبية بمعايير زمنهم- كانت فكرةُ شق بطن مريض وإجراء عملية جراحية له خطوةً محفوفة بالمخاطر وغير مضمونة على الإطلاق. قبل هذا التوقيت بقليل كان قد وقع خلاف عنيف بين الست وبين صديقها الشاعر الكبير “أحمد رامي”. خلاف في وجهات النظر الفنية تطور إلى مشادة كلامية بينهما، ثم إلى ما يشبه القطيعة؛ بسبب تمسك كل طرف برأيه!

الناس كلها سألت عن “أم كلثوم” إلا “رامي” غاب عن المشهد تمامًا، وكأنَّ الفراقَ قد وجد هوى في نفسه، ورغم أن المستشفى لم تكن تخلو من الزوار فإن غياب الصديق المقرب أو “الأستاذ” كما كانت تحب أن تناديه ظل غُصة في نفس الست.

على الجانب الآخر كان “رامي” مترددًا في أمر الزيارة، وهو الذي اعتاد أن كرامتَه خطٌ أحمر لا مساس به حتى لو كان الثمن خسارة أعز الناس على قلبه. لكنها “أم كلثوم”.. حسم تردده سريعًا، وفجأة ودون سابق إنذار، قال: “الواجب والأصول”، فاتصل بها، وقرر أن يزورها. تعمد اختيار وقت متأخر بعد مواعيد الزيارة الرسمية؛ حتى لا يراه أحد ودخل عليها يقدم قدم ويؤخر الأخرى ممسكًا في يده وردة واحدة كبيرة حمراء!

“أُم كلثوم” رفعت حاجبها، ونظرت إليه نظرة عتاب ولوم دون كلام. وكي لا تُظهر غضبها منه بسبب عدم سؤاله عنها وجهت إشارة بسخرية على الوردة اليتيمة التي يحملها وقالت: “وردة واحدة! والله كتر خيرك”..  استقبل “رامي” سخريتها كعادته بابتسامة، وردَّ عليها بسرعة قائلًا: “أنا كنت هجيب بوكيه كامل لكن فكرت وقلت لما أُم كلثوم تتهادى بورد مش لازم تكون صُحبة ورد كتير؛ بالعكس ممكن تكون وردة واحدة بس لكن بشرط تكون أحلى وردة فيهم”. الجملة كانت منطقية ولطيفة، فأذابت كثيرًا من جبل الثلج بينهما، خصوصًا أن الوردة فعلًا كانت جميلة ومُلفتة. والموقف رغم بساطته كان بداية لشكل علاقة صداقة ناضجة بين الاثنين استمرت حوالي 35 عامًا.

فرومتيج وموسى

الفيلسوف الألماني الشهير “موسى مندلسون” كان أحدب ومقوس الظهر بشكل ملفت، ولا يحمل أي معيار للوسامة على الإطلاق. زار تاجر في مدينة هامبورج للمناقشة معه في أمور عدة متعلقة بتجارة بينهما. ولأن مندلسون غريب عن المدينة عرض عليه التاجر أن يستضيفه في منزله، فوافق مندلسون على الفور. وفي ليلته الأولى رأى بالصدفة ابنة التاجر التي تدعى “فرومتيج” فتاة جميلة، جذابة، في أوائل العشرينيات من عمرها. وكما يقال في الأساطير: “دب حُبّها في قلبه من أول نظرة”. وبسبب حبها استمر مندلسون ضيفًا في منزل صديقه التاجر لمدة شهر كامل؛ محاولًا التقرب من “فرومتيج” التي لم تكن تطيق النظر إلى وجهه، وكانت تنفر منه دومًا، وتتحاشى الوجود في المجلس نفسه.

طلب يدها من والدها للزواج، فجاءه الرد بالرفض أسرع مما توقع. اعتصر الحزن قلبه، وقرر مغادرة المنزل، وقبلها بلحظات استجمع شجاعته، وصعد على السلم المؤدي إلى غرفتها؛ ليلقي أمامها شيئًا كان في صدره. طرق الباب، ففتحت “فرومتيج”، وفور رؤيته قطبت حاجبيها بغضب، وعقدت ذراعيها أمام صدرها، وسألته بحدة: “ماذا تريد؟!”.

  • قال لها: “هل تؤمنين بالقضاء والقدر؟”
  • ردت:”طبعًا”.
  • سألها: “وهل تؤمنين أن الله يستجيب لدعائنا؟”
  • ردت:”بالتأكيد!”
  • قال: “من صغري وأنا مؤمن أنني سأتزوج امرأة حدباء مثلي، ولكني كنت أدعو الله كل يوم أن يعطيني أنا الحدب ويعطي زوجتي الجمال”.

بمجرد نطقه للجملة السابقة رفعت “فرومتيج” عينيها إلى “مندلسون”، واختلفت نظرتها إليه وكأنها تراه لأول مرة، وكأن حروف جملته بقدر بساطتها بقدر ما شقت طريقها لقلبها بمنتهى السلاسة واليسر. مدت يدها إليه، وأومأت برأسها إيجابًا، وبخجل، فأمسك بأناملها، وانحنى على ركبته اليمنى وقبّلها. من وقتها وحتى وفاته كانت “فرومتيج” زوجته المخلصة المحبة دائمًا.

أبسط الأشياء ما تكون الأصدق

على طول الخط وفي كل الأمور البساطة هي الرابحة: العلاقات، والماكياج، وطريقة ارتداء الملابس ونوعها، وشكل الكلام، واختيار الهدايا، وذوق الأثاث وغيرها. أصدق مَنْ تعاملت معهم هم مَنْ يلقون ما في صدورهم من كلمات على ألسنتهم دون كتمان. وأنضج مَنْ عرفتهم هم مَنْ يتجاوزون الخلافات التي بينهم وبينك بمنتهى السلاسة والبساطة وكأن شيئًا لم يكن. أي تصرف عكس طبيعتك الفطرية ومزاجك لا تُقدم عليه، كُن حقيقيًا، بسيطًا ولينًا في كل ما يصدر منك؛ فذلك أبقى وأدوم. فالكاتب الأمريكي “ريتشارد باخ” قال:” أبسط الأشياء غالبًا ما تكون الأصدق”.




 تعليقاتكم

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*

احدث الافلام حصريا ومجانا