الكبيرة : رشا الشامي

المعلم : أسامة الشاذلي

أسبوعان قبل الثلاثين .. فن التخلي

الثلاثين

لماذا أكتب الآن؟ يقول البعض إننا نكتب لأننا نريد أن يسمع العالم ما نقول، ويقول البعض إننا نكتب لأننا نحب لفت الانتباه، ويقول البعض إننا نكتب لأننا لا نملك خيارًا آخر فالكتابة أو الموت، أما أنا فأقول أنا راقص تعري بدين الجسم خفيف العقل، أعشق فن التعري، ولا شيء علي الآن يمكن أن يجعلني أتعرى أمام من لا أعرفهم إلا صفحة خاوية وقلم أو لوحة مفاتيح، أنا أكتب لأنني أريد أن أرى نفسي بوضوح مثلما قد يراني البعض، لهذا دائمًا أكتب، حينما أحب وحينما أكره، حينما أعاتب أو أشكر أو أعادي أو أهاجم أو أدافع، بل إنني أكتب حينما أقرر الصمت، أكتب حينما ترفض الكلمات أن تطاوعني كصاحب خيل يرفض فرسه أن يطيعه فيروضه قليلًا، كرابيج من الكلمات دائما تفي بالغرض، لهذا أكتب.

لا يبلغ الفرد منا الثلاثين كل يوم أو كل عام… الثلاثون، حينما دخلت إلى المدرسة للمرة الأولى، ظننت أن هذا السن بعيد أبعد من الرب الساكن بعد السماوات السبع، بل ظننت أنني لن أصل إليه أبدًا، فرص أن تصل للثلاثين لا تتعدى واحد على مائة في تلك الحياة، كل ما يحيط بك يمكن أن يتحول لسلاح لقتلك في لحظة، ولكن لمجهول ما بقيت حتى شارف الثلاثين.

يفصلني عنها بضعة أيام ستمر كما مرت أُخريات، الثلاثون، السن الذي يجب أن نتوقف فيه عن كوننا أطفال، لا بل يجب أن نتوقف فيه عن اعتبار أنفسنا شباب صغار، الآن نخطو ذلك الممر الضيق بين الشباب والكهولة والتي ما أن نصل لها فسنعبر الممر الأخير بين الكهولة والعجز، الثلاثين الذي نتحول فيه من ” كابتن” إلى “عمو” أو “بابا” أو “خالو”، ثلاثون عامًا مضت هل يجب أن أتذكرها الآن؟

منذ ست سنوات وأنا مثل “فورست جامب” أكتب بلا توقف، قبلها كنت أكتب وأتوقف، ثم أعود وأتوقف وأعود، من 6 أعوام أو يزيد كان قرارًا بالكتابة إلى أبد الدهر، ما يزيد بكثير عن 1000 مقال وخبر وتقرير وحوار، 4 أفلام لم ولن ترى النور أبدًا لأنها أعدمت بعد كتابتها، 4 آخرون لم يروا النور بعد وإن كنت أتمنى أن يزورهم الضوء يومًا ما، العديد من القصائد والعديد من القصص العشرات من أفكار الأفلام تنتظر أن أتوقف عن الكتابة لأبدأ في كتابتها، لم أخلص لشيء يوما ما، إلا للكتابة، لم أخلص حتى إلى نفسي ، فأنا أحمل عدد من المبادئ تهاوى بعضها وإن ظل البعض صامدًا، التجربة وحدها هي التي تجعلك تعرف هل هذا مبدأك بحق أم أنه شيء تزين به صورتك أمام الآخرين، لأنني كتبت الكثير فأنا أعرف عني الكثير والكثير، وصدقًا ما أعرفه عني يجعلني أقول بصدق شديد، كم أنا شخص بشع.

قالت لي إحدى الصديقات “أنت إنسان يقلق ويخوّف اللي قدامه.. أنت تقدر تستغنى عن أي حاجة” كان هذا ردها حينما أخبرتها أن وزني أنخفض من 156 كيلو إلى 128 كيلو بسبب رغبتي في هذا، وهي كانت تعلم كم أحب الأكل، والآن أصبحت 115، الحقيقة أن السينما والجنس والأكل هما أكثر ثلاثة أشياء أحبهم على الإطلاق، والآن السينما تحولت عمل والأكل تخليت عنه وبقي الجنس الفعل الوحيد الذي يجب أن يشاركك فيه أحدهم ليكتمل، لذلك يبدو أن الأمر معطل حاليًا.

أقف على باب الثلاثين لأنظر خلفي، كل ما تركته لم أتركه حقًا، أشبه ذلك الرجل الذي كان يحمل معه من كل مكان مر به حفنة من التراب، والفرق بيننا أن تراب ما تركته خلفي مازال عالقًا بي أو للدقة مازالتُ عالقًا أنا به، تركت بلدة وأهل، تزوجت وأنجبت وطلبت الانفصال، أدرك وقتها حكمة المثل القائل ” بينفخ في قربة مقطوعة” كنت أنا تلك القربة وأنا من ينفخ، أنا لا أصلح لمثل تلك الأمور لا أصلح أبدًا، تركت طفولتي في رعاية الصديق الوحيد الذي عاش معي 30 عامًا كاملة يرعاها الآن كما يرعي عدد من الصبية في فريق الكشافة، فؤاد الطفل الذي مازال طفلًا حتى بعد الثلاثين، وتركت شبابي مقسمًا بين قصص حب فاشلة وتركت أم وأخ ولكنهم لم يتركوني ولا أدري سببًا لتمسكهم بي، أحببت وتركت، فُصلت من عملي مرات وتركته برغبتي مرات أقل، الاستقرار المادي بالنسبة لي هو الرابع بعد العنقاء والغول والخل الوفي، لذا أعيش كما يعيش أي مقامر يلاعب الأيام على قوت يومه أو حد الكفاف يربح بعضًا ولكنه يخسر كثيرًا.

ارتكبت العديد من الأخطاء، اعترف الآن كثيرًا ما أحب ارتكاب الأخطاء، ولم أزعم يومًا أنني بلا خطيئة لذلك أيضًا لم أرمِ أحدهم بحجر يومًا، قيل عني ما قاله مالك في الخمر، وقلت عنهم المثل، وقيل عني ما قاله أبو النواس في الخمر أيضا وقلت عن بعضهم المثل، المؤنث الوحيد الذي رافقتني إلى الآن مخلصة وتؤدي واجبها بهمة ونشاط هي السيجارة إذا كان الرجال يضعون في أصابعهم خاتما للزواج فتلك العلامات السوداء بين اصابعي هي خاتمي.

قال لي صديق “أنت عارف كل ما أقعد معاك أحس أنك شوفت الدنيا دي كلها قبل كدة وبتتفرج على الإعادة.. مفيش حاجة بتدهشك أو تبهرك” صدق حينما قال ذلك ولكن ليس لأني رأيت ما يحدث سلفًا ولكن ببساطة لآن كل ما يحدث لا يثير في مشاعر، ربما لأن الكثير منها تركته مثلما تركت كل شيء، في أحد الأفلام الحربية، يذهب أحد الجنود وحيدًا في مهمة وحينما يرغب البعض في مصاحبته يرفض ليقول “أنا أسرع حركة وأنا بمفردي” تلك هي القاعدة الأهم في فن التخلي.

نتخلى لنكون أسرع حركة، أخف وزنًا، وندفع في المقابل ثمنًا لم يدفعه أحد من قبل، نشرب الوحدة كالقهوة على مهل، فلا ننتهي أو تنتهي إلى موت، كل ما أتمناه دائمًا أن أموت بلا ضجيج “من غير زفارة” أو “مرمطة” وأكبر مخاوفي هي البقاء كجثة في مكان موتي ولا يعرف أحد أنني ذهبت، إلا حينما تصرخ رائحتي طلبًا للدفن، فيصاب كل من يراني بالاشمئزاز ليحل القرف محل الشفقة والحزن حينما أرحل، لا أرغب أن أموت بصحبة أحدهم ولكنني أرغب بشدة حينما أموت أن يسارع أحدهم بدفن سوءتي، وربما بعض الدموع تكفي لتجعلني أبتسم وقتها.

ثلاثون عامًا مرت، لم أعد أخاف الموت ولا الظلام ولا الكوابيس ولا الفقد ولا الحيرة ولا الأشباح ولا سكان الأماكن، أصبحت فقط أخاف من البشر، أرضى بالبقاء في منزلي أيام طويلة أكتب وأشاهد، أتحدث للناس عن طريق لوحة المفاتيح، أمنح نفسي لحظات من بهجة زائفة ومتعة لا يدوم أثرها طويلة لأعود كما أنا، تمثال من لحم ودم وكلمات، يتحدث إلي صور ملصقة على الحائط عوضًا من أن يحادث صديق أو عابر سبيل، والآن أعبر الباب وحدي ومعي كل ما تركته من أسماء وذكريات وألم وفشل ونجاح، أعبره وحيدًا لأسير وحيدًا فلا أحد ينتظرني في الجهة الأخرى إلا نتيجة حائط وساعة كبيرة تحسب كل ما أخطوه وتخصمه من حساب مجهول، انتظر فقط أن يصل رصيدي إلى صفر، لأعلن وقتها أنني دفعت ثمن التخلي كاملًا غير منقوص، لأصبح أسرع حركة وأخف وزنًا وأثقل حزنًا.




 تعليقاتكم

  1. تخيل أني فرض عليا ان ابدأ رحلة التخلي وانا الآن ف الأربعين من عمري،سيده لا تعرف اي شيء عن اي شيء، اطلب الموت كي أتجنب تلك الرحلة لكنه لا يأتي … مقال اكثر من رائع .

  2. مقال رائع جداً.. تذكر كلماتي.. يوماً ما سنرى أحد تلك الأفلام لترى النور.. قلمك رائع

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*

احدث الافلام حصريا ومجانا